فصل: تفسير الآيات (5- 9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات (5- 9):

قوله تعالى: {قال ربِّ إِنِّي دعوْتُ قوْمِي ليْلا ونهارا (5) فلمْ يزِدْهُمْ دُعائِي إِلّا فِرارا (6) وإِنِّي كُلّما دعوْتُهُمْ لِتغْفِر لهُمْ جعلُوا أصابِعهُمْ فِي آذانِهِمْ واسْتغْشوْا ثِيابهُمْ وأصرُّوا واسْتكْبرُوا اسْتِكْبارا (7) ثُمّ إِنِّي دعوْتُهُمْ جِهارا (8) ثُمّ إِنِّي أعْلنْتُ لهُمْ وأسْررْتُ لهُمْ إِسْرارا (9)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان صلى الله عليه وسلم أطول الأنبياء عمرا، وكان قد طال نصحه لهم وبلاؤه بهم، نبه على ذلك بقوله مستأنفا: {قال} مناديا لمن أرسله لأنه تحقق أن لا قريب منه غيره، وأسقط أداة النداء كما هي عادة أهل القرب فقال: {رب} ولما كانت العادة جارية بأن التكرار لابد أن يؤثر ولو قليلا، فكانت مخالفتهم لذلك مما هو أهل لأن يشك فيه، قال مؤكدا إظهارا لتحسره وحرقته عليه الصلاة والسلام منهم في تماديهم في إصرارهم على على التكذيب شكاية لحاله إلى الله تعالى واستنصارا به واستمطارا للتنبيه على ما يفعل به بذله الجهد وتنبيها لمن يقص به عليهم هذا وإن كان المخاطب سبحانه عالما بالسر وأخفى: {إني دعوت} أي أوقعت الدعاء إلى الله سبحانه وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة {قومي} أي الذين هم جديرون بإجابتي لمعرفتهم بي وقربهم من وفيهم قوة المحاولة لما يريدون.
ولما كان قد عم جميع الأوقات بالدعاء قال: {ليلا ونهارا} فعبر بهذا عن المداومة.
ولما تسبب عن ذلك ضد المراد قال: {فلم يزدهم دعاءي} أي شيئا من أحوالهم التي كانوا عليها {إلا فرارا} أي بعدا عنك ونفورا وبغضا وإعراضا حتى كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة، وأسند الزيادة إلى الدعاء لأنه سببها.
ولما كان الفرار مجازا عن رد كلامه، عطف عليه ما يبينه، فقال مؤكدا لأن إعراضهم مع هذا الدعاء الطويل مما لا يكاد يصدق: {وإني كلما} على تكرار الأوقات وتعاقب الساعات {دعوتهم} أي إلى الإقبال عليك بالإيمان بك والإخلاص لك.
ولما كان إعراضهم عما ينفعهم أقبح، ذكر ما يتسبب عن الإجابة بالإيمان فقال: {لتغفر لهم} أي ليؤمنوا فتمحو ما فرطوا فيه في حقك فأفرطوا لأجله في التجاوز في الحدود محوا بالغا فلا يبقى لشيء من ذلك عينا ولا أثرا حتى لا تعاقبهم عليه ولا تعاتبهم {جعلوا} أي في كل دعاء، ودل على مبالغتهم في التصامم بالتعبير بالكل عن البعض فقال: {أصابعهم} كراهة له واحتقارا للداعي {في آذانهم} حقيقة لئلا يسمعون الدعاء إشارة إلى أنا لا نريد أن نسمع ذلك منك، فإن أبيت إلا الدعاء فإنا لا نسمع لسد أسماعنا، ودلوا على الإفراط في كراهة الدعاء بما ترجم عنه قوله: {واستغشوا ثيابهم} أي أوجدوا التغطية لرؤوسهم بثيابهم إيجاد من هو طالب لذلك شديد الرغبة فيه حتى يجمعوا بين ما يمنع السماع لكلامه والنظر إليه إظهارا لكراهته وكراهة كلامه، وهكذا حال النصحاء مع من ينصحونه دائما {وأصروا} أي داموا على سوء أعمالهم دواما هم في غاية الإقبال عليه، من أصر الحمار على العانة- إذا صر أذنيه وأقبل عليها يطردها ويكدمها، استعير للإقبال على المعاصي وملازمتها لأنه يكون بغاية الرغبة كأن فاعله حمار وحش قد ثارت شهوته {واستكبروا} أي أوجدوا الكبر طالبين له راغبين فيه، وأكد ذلك بقوله: {استكبارا} تنبيها على أن فعلهم منابذ للحكمة، فكان مما ينبغي أن لا يفعلوه فهو مما لا يكاد يصدق لذلك، وقد نادت هذه الآيات بالتصريح في غير موضع بأنهم عصوا نوحا عليه الصلاة والسلام وخالفوه مخالفة لا أقبح منها ظاهرا بتعطيل الأسماع والأبصار، وباطنا بالإصرار والاستكبار ولم يوافقوه بقول ولا فعل، فلعنة الله عليهم وعلى من يقول: إنهم وافقوه بالفعل، لأنه دعاهم للمغفرة وقد غطوا وجوههم، والتغطية هي الغفر ونحو ذلك من الخرافات التي لو سمعها أسخف عباد الحجارة الذين لا أسخف منهم لهزؤوا بقائلها، وما قال هذا القائل ذلك إلا تحريفا لكتاب الله بنحو تحريف الباطنية الذين أجمعت الأمة على تكفيرهم لذلك التحريف، ولعنة الله على من يشك في كفر من يحرف هذا التحريف أو يتوقف في لعنه، وهم الاتحادية الذين مرقوا من الدين في آخر الزمان، ومن أكابرهم الحلاج وابن عربي وابن الفارض، وتبعهم على مثل الهذيان أسخف الناس عقولا {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} [الفرقان: 44] ولقد أخبرني الإمام العلامة برهان الدين إبراهيم بن أبي شريف القدسي الشافعي الثبت النحرير عن بعض من يتعصب لهم في هذا الزمان، وهو من أعيان المدرسين بالقاهرة، أنه قال له: ما حملني على انتقادي لابن الفارض إلا أني رأيت كلام التائية له متناقضا، فتارة يفهم منها الحلول وتارة الاتحاد، وهو عندي يحاشى عن ذلك، فعلمت أن لهؤلاء القوم اصطلاحا نسبتنا منه نسبة التباين إذا سمعوا النحوي يقول: الفاعل مرفوع، فإنهم يضحكون منه، ولو فهمنا اصطلاحهم لم نعترض- هذا معنى ما نقل عنه وهو ما لا يرضاه ذو مسكة، وهو شبيه بما نقل المسعودي في أوائل مروج الذهب عن بعض من اتهم بعقل وعلم من النصارى في زمن أحمد بن طولون، فاختبره فوجده في العلم كما وصف، فسأله عن سبب ثباته على النصرانية مع علمه فقال: السبب تناقضها مع أنه دان بها ملوك متكبرون وعلماء متبحرون ورهبان عن الدنيا معرضون ومدبرون، فعلمت أنه ما جمع هؤلاء الأصناف على الدينونة بها مع تناقضها إلا أمر عظيم اضطرهم لذلك، فدنت بها، فقال له: اذهب في لعنة الله فلقد ضيعت كل عقل وصفت، ولقد والله صدق في الأمر العظيم الذي حملهم على ذلك، وهو القضاء والقدرة الذي حمل كل أحد منهم على إلقاء نفسه في نار جهنم باختياره بل برغبته في ذلك ومقاتلة من يصده عن ذلك، وذلك أدل دليل على تمام علم الله وقدرته وأنه واحد لا شريك له ولا معقب لحكمه، وفي هذا تصديق قوله النبي صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع» وهم أهل الكتاب، وقد أشبعت القول في هذا في كتابي (القارض في تكفير ابن الفارض) الذي بينت فيه عوارهم، وأظهرت عارهم، وكذا كتابي (صواب الجواب للسائل المرتاب) و(تدمير المعارض في تكفير ابن الفارض) ولم أبق على شيء من ذلك شيئا من لبس- ولله الحمد.
ولما ذكر دعاءه في جميع الأوقات مع إعراضهم، وكان هذا مؤيسا وموجبا للإقلاع عن الدعاء، وإن وجد الدعاء بعده في غاية البعد منه على إيجاده مع الاستغراق به لجميع الحالات كما استغرق جميع الأوقات، فعبر بأداة التراخي للدلالة على تباعد الأحوال فقال: {ثم} وأكد لنحو ما مضى من أن تجرد إقبالهم على دعائهم بعد ذلك لا يكاد يصدق فضلا عن الإكثار منه فقال: {إني دعوتهم} أي إلى الإيمان ومنابذة الشيطان.
ولما كان الجهر أحد نوعي الدعاء، نصبه به نصب المصدر فقال: {جهارا} أي مكاشفة في فخامة الصوت والتعميم لجماعتهم جليلهم وحقيرهم والإخلاص في ذلك والمداومة له حتى كاد بصري يكل من شدة التحديث إليهم والإقبال عليهم من غير احتجاب عنهم ولا ارتقاب منهم بل مباغتة، وكررت ذلك عليهم حتى أخرجت ما عندهم من الجواب، ولم أكف عند سد آذانهم واستغشائهم ثيابهم.
ولما كان الجهر قد لا يشيع ولا ينشر في جماعاتهم، قال مشيرا إلى أنه أذاع ذلك، وأكد للإشارة إلى ما فيه من الشدة فقال: {ثم إني أعلنت} أي أظهرت وأشعت وشهرت ليعلموا أنه الحق من ربهم لكوني لست مستحييا منه ولا مستهجنا له {لهم} أي خصصتهم بذلك، لم يكن فيه حظ نفس بوجه فإني كررت ذلك عليهم بعد أن سقط الوجوب عني، ولما قدم الجهر لأنه أقرب إلى عدم الاتهام، وكان السر أجدر بمعرفة الضمائر وأقرب إلى الاستمالة، أتبعه به فقال: {وأسررت لهم} أي دعوت كل واحد منهم على انفراده ليكون أدعى له وأجدر بقبوله النصيحة، وأدل على الإخلاص، وكل ذلك ما فعلته إلا لأجل نصيحتهم، لا حظ لي أنا في ذلك، ولما كان تحين الإنسان ليكون وحده ليس عنده أحد ولا هو مشتغل بصارف مما يعسر جدا فلا يكاد يصدق أكده فقال: {إسرارا} وليدل بتأكيده على تأكيد ما قبله من الأفعال، والظاهر من حاله ومن هذا الترتيب مما صرح به من الاجتهاد أنه سار فيه على مقتضى الحكمة، فدعا أولا أقرب الناس إليه وأشدهم به إلفا، ثم انتقل إلى من بعدهم حتى عمهم الدعاء، وكانت هذه الدعوة سرا كل واحد منهم على حدته ليعلموا نصحه ولا يحمل أحد منهم ذلك على تبكيت ولا تقريع، جهر ليعلموا أنه ملجأ من الله إلى ذلك، وأنها عزمة إن قصروا فيها عن الأجابة عوقبوا، فلما أصروا جمع بين السر والعلن، فلما تمادوا وطال الأذى شكى، وعلى هذا فثم لبعد الرتب لا للترتيب في الزمان، ويمكن كونها للترتيب لأن الجهر أبعد عن الاتهام ثم الإعلان بعده أزيد بعدا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{قال ربِّ إِنِّي دعوْتُ قوْمِي ليْلا ونهارا (5)}
اعلم أن هذا من الآيات الدالة على أن جميع الحوادث بقضاء الله وقدره، وذلك لأنا نرى إنسانين يسمعان دعوة الرسول في مجلس واحد بلفظ واحد، فيصير ذلك الكلام في حق أحدهما سببا لحصول الهداية، والميل والرغبة، وفي حق الثاني سببا لمزيد العتو والتكبر، ونهاية النفرة، وليس لأحد أن يقول: إن تلك النفرة والرغبة حصلتا باختيار المكلف، فإن هذا مكابرة في المحسوس، فإن صاحب النفرة يجد قلبه كالمضطر إلى تلك النفرة وصاحب الرغبة يجد قلبه كالمضطر إلى تلك الرغبة، ومتى حصلت تلك النفرة وجب أن يحصل عقيبه التمرد والإعراض، وإن حصلت الرغبة وجب أن يحصل عقيبه الانقياد والطاعة، فعلمنا أن إفضاء سماع تلك الدعوة في حق أحدهما إلى الرغبة المستلزمة لحصول الطاعة والانقياد وفي حق الثاني إلى النفرة المستلزمة لحصول التمرد والعصيان لا يكون إلا بقضاء الله وقدره، فإن قيل: هب أن حصول النفرة والرغبة ليس باختياره، لكن حصول العصيان عند النفرة يكون باختياره، فإن العبد متمكن مع تلك النفرة أن ينقاد ويطيع، قلنا: إنه لو حصلت النفرة غير معارضة بوجه من وجوه الرغبة بل خالصة عن جميع شوائب الرغبة امتنع أن يحصل معه الفعل، وذلك لأنه عندما تحصل النفرة والرغبة لم يحصل الفعل ألبتة، فعند حصول النفرة انضم إلى عدم المقتضي وجود المانع، فبأن يصير الفعل ممتنعا أولى، فثبت أن هذه الآية من أقوى الدلائل على القضاء والقدر.
ثم قال تعالى: {وإِنّى كُلّما دعوْتُهُمْ لِتغْفِر لهُمْ}.
اعلم أن نوحا عليه السلام إنما دعاهم إلى العبادة والتقوى والطاعة لأجل أن يغفر لهم، فإن المقصود الأول هو حصول المغفرة، وأما الطاعة فهي إنما طلبت ليتوسل بها إلى تحصيل المغفرة، ولذلك لما أمرهم بالعبادة قال: {يغْفِرْ لكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 4] فلما كان المطلوب الأول من الدعوة حصول المغفرة لا جرم قال: {وإِنّى كُلّما دعوْتُهُمْ لِتغْفِر لهُمْ} واعلم أنه عليه السلام لما دعاهم عاملوه بأشياء:
أولها: قوله: {جعلُواْ أصابعهم في ءاذانهم} والمعنى أنهم بلغوا في التقليد إلى حيث جعلوا أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا الحجة والبينة.
وثانيها: قوله: {واستغشوا ثِيابهُمْ} أي تغطوا بها، إما لأجل أن لا يبصروا وجهه كأنهم لم يجوزوا أن يسمعوا كلامه، ولا أن يروا وجهه.
وإما لأجل المبالغة في أن لا يسمعوا، فإنهم إذا جعلوا أصابعهم في آذانهم، ثم استغشوا ثيابهم مع ذلك، صار المانع من السماع أقوى.
وثالثها: قوله: {وأصرُّواْ} والمعنى أنهم أصروا على مذهبهم، أو على إعراضهم عن سماع دعوة الحق.
ورابعها: قوله: {واستكبروا استكبارا} أي عظيما بالغا إلى النهاية القصوى.
{ثُمّ إِنِّي دعوْتُهُمْ جِهارا (8)}
واعلم أن هذه الآيات تدل على أن مراتب دعوته كانت ثلاثة، فبدأ بالمناصحة في السر، فعاملوه بالأمور الأربعة، ثم ثنى بالمجاهرة، فلما لم يؤثر جمع بين الإعلان والإسرار، وكلمة {ثُمّ} دالة على تراخي بعض هذه المراتب عن بعض إما بحسب الزمان، أو بحسب الرتبة، لأن الجهار أغلظ من الإسرار، والجمع بين الإسرار والجهار أغلظ من الجهار وحده، فإن قيل: بم انتصب {جهارا}؟ قلنا: فيه وجوه أحدها: أنه منصوب بدعوتهم نصب المصدر، لأن الدعاء أحد نوعيه الجهار، فنصب به نصب القرفصاء بقعد لكونها أحد أنواع القعود وثانيها: أنه أريد بدعوتهم جاهرتهم وثالثها: أن يكون صفة لمصدر دعا بمعنى دعاء جهارا، أي مجاهرا به ورابعها: أن يكون مصدرا في موضع الحال أي مجاهرا. اهـ.